غزة- امتحان الضمير العالمي في وجه شريعة الغاب

المؤلف: حسن أوريد10.07.2025
غزة- امتحان الضمير العالمي في وجه شريعة الغاب

لا يحق لنا مطلقًا أن نعامل الأحداث الجارية، وتحديدًا الحرب المستعرة منذ السابع من أكتوبر، معاملة المؤرخ المتجرد، الذي ينظر إلى الوقائع ببرود، كما لو أنه يفحص جثة هامدة لا حراك فيها، بل يجب أن نستشعر كل ما فيها.

لا يجوز بحال من الأحوال أن ننظر إلى العدوان على غزة وكأنها ذكرى ولّت، أو أن نغض الطرف عما يكتنفها من آلام عميقة، وحسرات مريرة، وغضب عارم، ثم ننصرف إلى التفكير في المستقبل فقط، فهذا تجاهل للمأساة القائمة.

اقرأ أيضا

list of 2 items
list 1 of 2

فاطمة تحارب الجوع في غزة لتنقذ جنينها

list 2 of 2

أم غزية تجد ابنها بين الجثث المجهولة وتحمد الله أنه كامل

end of list

لسنا هنا لنسجل التاريخ فحسب، بل لنستبصر الحقائق ونتفكر مليًا.. ونجدد التذكير بأمر قد لا يروق للبعض، وهو أن ما قبل السابع من أكتوبر كان بالفعل نموذجًا صارخًا لواقع مأزوم، يتمثل في معاناة يومية يعيشها الفلسطينيون، واقتحامات متواصلة للمسجد الأقصى في القدس، وعمليات تفتيش مهينة عند المعابر، وأسرى يقبعون في غياهب الزنازين، أو يموتون ببطء نتيجة الإهمال، فضلاً عن محاولات الالتفاف الممنهج على القضية الفلسطينية، والتأهب للقضاء عليها وهي لا تزال حية.

هل نملك الجرأة لنقول إن هناك "ما بعد" السابع من أكتوبر، على غرار ما قاله الصحفي جيسون بورك في جريدة الأوبزرفر؟ نعم، هناك خليط معقد من "ما بعد"، لأن العالم لم يعد كما كان عليه، ولن يعود أبدًا، وهناك الآن، وهو حاضر مستمر بكل ما يحمله من قتل وتدمير وتهجير قسري.. وهناك غد غامض، تلفه الضباب الكثيف، وتثقله الغيوم الداكنة.

لقد تبدل العالم جذريًا؛ لأن الأسس التي قامت عليها هندسة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك الأمم المتحدة التي تأسست لمنع تكرار مآسي الحرب، تتهاوى أمام أعيننا. والوحشية تعود بأبشع صورها وأكثرها ضراوة. كل ما يمكن أن نعتبره ضميرًا إنسانيًا، أصبح معطلاً أو مشلولاً تمامًا. الأمم المتحدة لم تعد مجرد هيئة عاجزة، بل باتت متهمة بالتقصير والتواطؤ.. الجمعية العامة، الأمين العام للأمم المتحدة، وكافة أروقة المنظمة، كلها تقف اليوم في قفص الاتهام.

القوى الصاعدة لم تحرك ساكنًا يُذكر، واكتفت بالإدانات اللفظية والشجب البلاغي. لا الصين ولا روسيا استطاعتا تغيير مسار الأحداث. انفردت الولايات المتحدة بالهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، وسيكون من الصعب للغاية في المستقبل أن يطل الدب الروسي، أو التنين الصيني، أو الاتحاد الأوروبي المتهالك، للمساهمة في وضع أسس جديدة للعبة في هذه المنطقة الملتهبة.

ستظل المنطقة أسيرة هذا الوضع حتى إشعار آخر، وتتأرجح على أنغام ما يسمى "السلم الأميركي". فالولايات المتحدة هي التي تضع قواعد اللعبة، وأهم قاعدة في هذه اللعبة هي حماية إسرائيل بكل الوسائل، ودعمها بالسلاح والخبرات والمعلومات الاستخباراتية والتغطية الدبلوماسية.

لقد تغيرت ملامح الدبلوماسية الأميركية، فبعد أن كانت واضحة بشكل فج، أصبحت الآن متسمة بالكياسة والغموض. فهي من جهة تدعو إلى وقف إطلاق النار، ومن جهة أخرى تمد إسرائيل بأحدث الأسلحة والذخائر. وتعرب عن قلقها بشأن ما يلحق بالمدنيين من أضرار، ولكنها لا تفعل شيئًا ملموسًا لوقف العدوان. لقد أتقنت الولايات المتحدة فن الخطابة الأورويلية، فتقول الشيء الذي يحمل في طياته نقيضه، وتمزج بين دبلوماسية ظاهرها يرضي جميع الأطراف، وبين ترسانة عسكرية هدفها واحد ووحيد، هو تأمين إسرائيل و"حقها" المزعوم في الدفاع عن نفسها وتحقيق "العدالة".

لا توجد خطوط حمراء، ولا قوانين دولية، يمكن أن تقف في وجه هذا التوجه الذي ترعاه الولايات المتحدة. فصل جديد يلوح في الأفق من فصول "السلم الأميركي" في المنطقة، يقوم على القوة الغاشمة، وعلى دفن العدالة في غياهب النسيان.

أوروبا غائبة عن المشهد تمامًا، ولا تتحدث بصوت واحد. فبريطانيا وألمانيا جزء من الجوقة الأميركية، أما فرنسا فتحاول جاهدة أن تجد لها دورًا، ولكن دون أن تمس الكرة، كلاعب كرة قدم تائه يجري هنا وهناك بلا هدف، وإن بدا عليه الاجتهاد.

لم يعد العالم كما كان، لأن هندسة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها الأمم المتحدة التي تأسست كي لا يتكرر ما حدث خلال الحرب، تتهاوى. والبشاعة تعود أشد ضراوة

الحرب نفسها تغيرت. ففي جميع الحروب السابقة، كان عدد القتلى من العسكريين يفوق عدد القتلى من المدنيين، أما في حرب غزة، فالمدنيون هم الضحايا الرئيسيون، والنساء هن الفئة الأكثر تضررًا، والأطفال هم القتلى الأبرياء.

تجري العمليات العسكرية في بؤرة محددة، هي قطاع غزة المحاصر، ولكن لها تداعيات وامتدادات في أماكن أخرى عديدة، في الضفة الغربية المحتلة، وفي مناطق أبعد، في سوريا والأردن والعراق واليمن، وحتى في لبنان.

وهكذا، يُقتل جنود أميركيون في الأردن بتاريخ 28 يناير، فترد الولايات المتحدة بقصف أهداف في العراق. إيران تشن هجمات بطائرات مسيرة على إسرائيل في 13 أبريل ردًا على مقتل عدد من قادتها العسكريين في دمشق. وتنفذ إسرائيل ضربات جوية على أهداف في سوريا في 8 سبتمبر. وتشن بريطانيا والولايات المتحدة هجمات على اليمن في 4 فبراير. وتقصف إسرائيل ميناء الحديدة اليمني. ويُقتل إسماعيل هنية في طهران في 31 يوليو. وتستمر العمليات العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية، ويتصاعد القتل والتدمير. وتشن هجمات سيبرانية على نطاق واسع، ومن فصول هذه الحرب الإلكترونية مقتل حسن نصر الله.

رقعة المواجهة تتسع باستمرار، واللاعبون المتدخلون في الصراع يتكاثرون. إنها حرب شاملة بكل ما تعنيه الكلمة، ولكنها تتوزع على أماكن متعددة. لم تعد هناك وحدة في الزمان والمكان، كما في المسرح التقليدي: مكان معلوم، وزمن محدد، وتسلسل منطقي للأحداث. المكان يتمدد بلا حدود، والزمن فقد خطيته، والحرب أصبحت بلا اتساق. ليس لأن الحرب أصلًا بلا معنى، ولكن لأن الضحية يتم تصويرها على أنها الجلاد، والجلاد يظهر في صورة الضحية.

إن الحرب التي تشنها إسرائيل، يتم تقديمها في خطابها الإعلامي على أنها حرب من أجل الحضارة ضد قوى التخلف والبربرية. ولكن هذه "الحضارة" المزعومة، تتجسد في قصف المنشآت المدنية، وقتل الأطفال الأبرياء، وتدمير المستشفيات والمراكز الصحية. تتلاشى قواعد الحرب المتعارف عليها، ليصبح الإرهاب جزءًا لا يتجزأ من هذه الحرب الجديدة. فكيف لنا أن نسمي قصف المدنيين العزل، إن لم يكن إرهابًا موصوفًا؟

لقد تم استهداف الإعلاميين والصحفيين عمدًا، وقتل العديد منهم. والهدف واضح، هو منع الإعلام من أن يكون شاهدًا على الجرائم التي ترتكب. لقد حقق الإعلام خلال الحرب على غزة إنجازًا غير مسبوق، وهو تصوير حرب إبادة جماعية، في بث مباشر ولحظة وقوعها. ولكن القتلة لم يرق لهم ذلك، فأقدموا على إغلاق مكتب قناة الجزيرة في فلسطين. فالأمر كما في العصور القديمة، يجب أن تتم عمليات الإبادة والتطهير العرقي بعيدًا عن أعين الرأي العام، لكي يتم التغطية عليها وتبريرها، وتصوير الضحايا على أنهم مجرد خسائر جانبية.

من الدروس المستفادة من حرب غزة، أن الحرب التقليدية بجيوشها ووحداتها الثلاث: البرية والجوية والبحرية، وبمدرعاتها ومشاتها وخيالتها، قد ولت إلى غير رجعة. والنزع الأخير من الحرب التقليدية يتم حاليًا في ساحة أوكرانيا، في الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا، والذي يمثل نسخة محدثة من الحرب العالمية الثانية.

أما حروب المستقبل، فهي ستكون صورة طبق الأصل من حرب غزة، حرب سيبرانية ذكية، تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتعقب الوجوه وتعطيل الرادارات. حروب الغد لن تكون لها ساحة مواجهة محددة، ولا زمن محدد، ولا جبهة واحدة واضحة. وستمزج بين قواعد الحرب المتعارف عليها، وممارسات الإرهاب والتخويف.

هناك غد ينتظرنا.. ولكن من الذي سيرسم ملامحه؟ هل هي القوة الغاشمة؟ هل سنشهد نكبة جديدة أشد وطأة من النكبة الأولى؟ إن هدف إسرائيل المعلن، ليس فقط القضاء على القضية الفلسطينية، بل القضاء على الوجود الفلسطيني برمته، من خلال دفع الفلسطينيين إلى الهجرة القسرية. وخطة نتنياهو تقوم على تحميل الفلسطينيين مسؤولية موت المحتجزين الإسرائيليين، لكي يستثمر في وضع المظلومية، ويحكم قبضته على قطاع غزة، باستخدام سلاح آخر فتاك، هو التجويع والحصار.

إن الحرب على غزة، وفي غزة، هي هزيمة مدوية للضمير الإنساني. لقد علت صرخات الطلاب في الجامعات الغربية، وارتفعت أصوات الحقوقيين في المحاكم الدولية، ضد المسؤولين عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لكن ذلك لم يغير من الأمر شيئًا. فالعدوان مستمر، والمجرمون يصولون ويجولون دون حسيب أو رقيب. فأي توصيف يمكن أن نطلقه على ما يحدث، سوى أنه تجسيد لشريعة الغاب؟

يجب أن نعترف بأن كلاً من الولايات المتحدة وإسرائيل أظهرتا إصرارًا غير مسبوق على تجاهل جميع الأصوات المنددة بالعدوان والشاجبة للقتل والتدمير.. لقد صمدتا حتى مرت العاصفة. والمحزن والمخزي في الأمر، هو هذا الاستئناس بالموت والقتل.. لم تعد صور الدمار تحرك الضمائر. لقد اعتاد العالم على رؤية الموت، بل إنه أحيانًا يجد له مبررات واهية. فهناك أماكن أخرى تشهد الموت والدمار، ولكن لا يتم الحديث عنها أو تسليط الضوء عليها. قمة الانحطاط الأخلاقي.

لن تموت غزة، حتى وإن كانت جريحة، ولكن الضمير العالمي هو المهدد بالموت والفناء. سيموت العدل، وسيموت الحق، وستترنح الكرامة الإنسانية. ولسنا بحاجة لقراءة كتاب "اللفيتان" لتوماس هوبز، لكي ندرك أنه من دون وجود عقد اجتماعي عالمي، يلزم الجميع بالالتزام بقواعد واضحة وسارية، سيصبح كل شيء مباحًا وممكنًا. ستموت الحياة حينها، سيموت الأمل، وسيموت الإبداع، وسيموت التفكير، وستنضب كل عناصر التفاعل الإنساني، من تعارف وتبادل تجاري، وتعاون بناء.. ستكون تلك هي نهاية التاريخ، ليس كما تصورها فرانسيس فوكوياما بسيادة فكر الأنوار، بل بانهيار القيم الأخلاقية وانتشار شريعة الغاب.

وربما يجدر بنا أن نذكر الغربيين بقراءة شكسبير، عندما كان يقول إن "هناك شيئًا عفنًا في مملكة الدانمارك (أي عالمنا)"، كما في مسرحية هاملت، وإن "العالم بلا اتساق"، كما في هاملت أيضًا، وإن "الدم الذي يجري في عروق اليهودي، هو نفسه الدم الذي يجري في عروق كل البشر". والفلسطيني اليوم، تمامًا مثل اليهودي بالأمس، هو إنسان، له الحقوق نفسها التي يتمتع بها أي إنسان آخر، ويجب أن يتم تحريم ما يحرم على جميع البشر عليه أيضًا، تمامًا مثلما قال شكسبير في مسرحية "تاجر البندقية".

لم تعد غزة باب الشمس، بل أصبحت باب الجحيم الذي سيأتي على الأخضر واليابس، إن لم يتم تدارك الأمر عاجلاً، لتقليل الأضرار الناجمة. فالبشرية جمعاء تواجه امتحانًا للضمير، يتهددها أكثر مما يتهدد غزة الصامدة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة